كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله تعالى: {ولكن كَانَ في ضلال بَعِيدٍ}.
يعني أن ذلك لم يكن بإطغائه، وإنما كان ضالًا متغلغلًا في الضلال فطغى، وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
ما الوجه في اتصاف الضلال بالبعيد؟ نقول الضال يكون أكثر ضلالًا عن الطريق، فإذا تمادى في الضلال وبقي فيه مدة يبعد عن المقصد كثيرًا، وإذا علم الضلال قصر في الطريق من قريب فلا يبعد عن المقصد كثيرًا، فقوله: {ضلال بَعِيدٍ} وصف المصدر بما يوصف به الفاعل، كما يقال كلام صادق وعيشة راضية أي ضلال ذو بعد، والضلال إذا بعد مداه وامتد الضال فيه يصير بينًا ويظهر الضلال، لأن من حاد عن الطريق وأبعد عنه تتغير عليه السمات والجهات ولا يرى عين المقصد ويتبين له أنه ضل عن الطريق، وربما يقع في أودية ومفاوز ويظهر له أمارات الضلال بخلاف من حاد قليلًا، فالضلال وصفه الله تعالى بالوصفين في كثير من المواضع فقال تارة في ضلال مبين وأخرى قال: {فِى ضلال بَعِيدٍ}.
المسألة الثانية:
قوله تعالى: {ولكن كَانَ في ضلال بَعِيدٍ} إشارة إلى قوله: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [الحجر: 40] وقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان} [الحجر: 42] أي لم يكونوا من العباد، فجعلهم أهل العناد، ولو كان لهم في سبيلك قدم صدق لما كان لي عليهم من يد، والله أعلم.
المسألة الثالثة:
كيف قال ما أطغيته مع أنه قال: {لأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39] قلنا الجواب عنه من ثلاثة أوجه وجهان: قد تقدما في الاعتذار عما قاله الزمخشري والثالث: هو أن يكون المراد من قوله: {لأَغْوِيَنَّهُمْ} أي لأديمنهم على الغواية كما أن الضال إذا قال له شخص أنت على الجادة، فلا تتركها، يقال إنه يضله كذلك ههنا، وقوله: {مَا أَطْغَيْتُهُ} أي ما كان ابتداء الإطغاء مني.
ثم قال تعالى: {قال لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ}.
قد ذكرنا أن هذا دليل على أن هناك كلامًا قبل قوله: {قال قرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} [ق: 27] وهو قول الملقى في النار ربنا أطغاني وقوله: {لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ} يفيد مفهومه أن الاختصام كان ينبغي أن يكون قبل الحضور والوقوف بين يدي.
وقوله تعالى: {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بالوعيد}.
تقرير للمنع من الاختصام وبيان لعدم فائدته، كأنه يقول قد قلت إنكم إذا اتبعتم الشيطان تدخلون النار وقد اتبعتموه، فإن قيل ما حكم الباء في قوله تعالى: {بالوعيد}؟ قلنا فيها وجوه أحدها: أنها مزيدة كما في قوله تعالى: {تَنبُتُ بالدهن} [المؤمنون: 20]، على قول من قال إنها هناك زائدة، وقوله: {وكفى بالله} [النساء: 6] وثانيها: معدية فقدمت بمعنى تقدمت كما في قوله تعالى: {يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ الله} [الحجرات: 1] ثالثها: في الكلام إضمار تقديره، وقد قدمت إليكم مقترنًا بالوعيد {مَا يُبَدَّلُ القول لَدَىَّ} [ق: 29] فيكون المقدم هو قوله، ما يبدل القول لدي، رابعها: هي المصاحبة يقول القائل: اشتريت الفرس بلجامه وسرجه أي معه فيكون كأنه تعالى قال: قدمت إليكم ما يجب مع الوعيد على تركه بالإنذار.
وقوله تعالى: {مَا يُبَدَّلُ القول لَدَىَّ} يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون قوله: {لَدَىَّ} متعلقًا بالقول أي {مَا يُبَدَّلُ القول لَدَىَّ} وثانيهما: أن يكون ذلك متعلقًا بقوله: {مَا يُبَدَّلُ} أي لا يقع التبديل عندي، وعلى الوجه الأول في القول الذي لديه وجوه أحدها: هو أنهم لما قالوا حتى يبدل ما قيل في حقهم {أَلْقِيَا} [ق: 24] بقول الله بعد اعتذارهم لا تلقياه فقال تعالى: {ما يبدل هذا القول لدي}، وكذلك قوله: {وَقِيلَ ادخلوا أبواب جَهَنَّمَ} [الزمر: 72] لا تبديل له ثانيها: هو قوله: {ولكن حَقَّ القول مِنْى لأمْلانَّ جَهَنَّمَ} [السجدة: 13] أي لا تبديل لهذا القول ثالثها: لا خلف في إيعاد الله تعالى كما لا إخلاف في ميعاد الله، وهذا يرد على المرجئة حيث قالوا ما ورد في القرآن من الوعيد، فهو تخويف لا يحقق الله شيئًا منه، وقالوا الكريم إذا وعد أنجز ووفى، وإذا أوعد أخلف وعفا رابعها: لا يبدل القول السابق أن هذا شقي، وهذا سعيد، حين خلقت العباد، قلت هذا شقي ويعمل عمل الأشقياء، وهذا تقي ويعمل عمل الأتقياء، وذلك القول عندي لا تبديل له بسعي ساع ولا سعادة إلا بتوفيق الله تعالى، وأما على الوجه الثاني ففي {مَا يُبَدَّلُ} وجوه أيضًا أحدها: لا يكذب لدي ولا يفتري بين يدي، فإني عالم علمت من طغى ومن أطغى، ومن كان طاغيًا ومن كان أطغى، فلا يفيدكم قولكم أطغاني شيطاني، ولا قول الشيطان {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} [ق: 27] ثانيها: إشارة إلى معنى قوله تعالى: {ارجعوا وَرَاءكُمْ فالتمسوا نُورًا} [الحديد: 13] كأنه تعالى قال لو أردتم أن لا أقول فألقياه في العذاب الشديد كنتم بدلتم هذا من قبل بتبديل الكفر بالإيمان قبل أن تقفوا بين يدي، وأما الآن فما يبدل القول لدي كما قلنا في قوله تعالى: {قال لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ} [ق: 28] المراد أن اختصامكم كان يجب أن يكون قبل هذا حيث قلت {إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوًّا} [فاطر:
6] ثالثها: معناه لا يبدل الكفر بالإيمان لدي، فإن الإيمان عند اليأس غير مقبول فقولكم ربنا وإلهنا لا يفيدكم فمن تكلم بكلمة الكفر لا يفيده قوله ربنا ما أشركنا وقوله ربنا آمنا وقوله تعالى: {مَا يُبَدَّلُ القول} إشارة إلى نفي الحال كأنه تعالى يقول ما يبدل اليوم لدي القول، لأن ما ينفي بها الحال إذا دخلت على الفعل المضارع، يقول القائل ماذا تفعل غدًا؟ يقال ما أفعل شيئًا أي في الحال، وإذا قال القائل ماذا يفعل غدًا، يقال لا يفعل شيئًا أو لن يفعل شيئًا إذا أُريد زيادة بيان النفي، فإن قيل هل فيه بيان معنوي يفيد افتراق ما ولا في المعنى نقول: نعم، وذلك لأن كلمة لا أدل على النفي لكونها موضوعة للنفي وما في معناه كالنهي خاصة لا يفيد الإثبات إلا بطريق الحذف أو الإضمار وبالجملة فبطريق المجاز كما في قوله.
{لاَ أُقْسِمُ} [البلد: 1] وأما ما فغير متمحضة للنفي لأنها واردة لغيره من المعاني حيث تكون اسمًا والنفي في الحال لا يفيد النفي المطلق لجواز أن يكون مع النفي في الحال الإثبات في الاستقبال، كما يقال ما يفعل الآن شيئًا وسيفعل إن شاء الله، فاختص بما لم يتمحض نفيًا حيث لم تكن متمحضة للنفي لا يقال إن لا للنفي في الاستقبال والإثبات في الحال فاكتفى في استقبال بما لم يتمحض نفيًا لأنا نقول ليس كذلك إذ لا يجوز أن يقال لا يفعل زيد ويفعل الآن نعم يجوز أن يقال لا يفعل غدًا ويفعل الآن لكون قولك غدًا يجعل الزمان مميزًا فلم يكن قولك لا يفعل للنفي في الاستقبال بل كان للنفي في بعض أزمنة الاستقبال، وفي مثالنا قلنا ما يفعل وسيفعل وما قلنا سيفعل غدًا وبعد غد، بل هاهنا نفينا في الحال وأثبتنا في الاستقبال من غير تمييز زمان من أزمة الاستقبال عن زمان، ومثاله في العكس أن يقال لا يفعل زيد وهو يفعل من غير تعيين وتمييز ومعلوم أن ذلك غير جائز.
وقوله تعالى: {وَمَا أَنَاْ بظلام لّلْعَبِيدِ} مناسب لما تقدم على الوجهين جميعًا، أما إذا قلنا بأن المراد من قوله: {لَدَىَّ} أن قوله: {فألقياه} [ق: 26] وقول القائل في قوله: {قِيلَ ادخلوا أبواب جَهَنَّمَ} [الزمر: 72] لا تبديل له فظاهر، لأن الله تعالى بيّن أن قوله: {أَلْقِيَا في جَهَنَّمَ} [ق: 24] لا يكون إلا للكافر العنيد فلا يكون هو ظلامًا للعبيد.
وأما إذا قلنا بأن المراد {مَا يُبَدَّلُ القول لَدَىَّ} بل كان الواجب التبديل قبل الوقوف بين يدي فكذلك لأنه أنذر من قبل، وما عذب إلا بعد أن أرسل وبيّن السبل، وفيه مباحث لفظية ومعنوية.
أما اللفظية فهي من الباء من قوله ليس {بظلام} وفي اللام من قوله: {لّلْعَبِيدِ} أما الباء فنقول الباء تدخل في المفعول به حيث لا يكون تعلق الفعل به ظاهرًا ولا يجوز إدخالها فيه حيث يكون في غاية الظهور، ويجوز الإدخال والترك حيث لا يكون في غاية الظهور ولا في غاية الخفاء، فلا يقال ضربت بزيد لظهور تعلق الفعل يزيد، ولا يقال خرجت وذهبت زيدًا بدل قولنا خرجت وذهبت بزيد لخفاه تعلق الفعل بزيد فيهما، ويقال شكرته وشكرت له للتوسط فكذلك خبر ما لما كان مشبهًا بالمفعول، وليس في كونه فعلًا غير ظاهر غاية الظهور، لأن إلحاق الضمائر التي تلحق بالأفعال الماضية كالتاء والنون في قولك: لست ولستم ولستن ولسنا يصحح كونها فعلًا كما في قولك كنت وكنا، لكن في الاستقبال يبين الفرق حيث نقول يكون وتكون، وكن، ولا نقول ذلك في ليس وما يشبه بها فصارتا كالفعل الذي لا يظهر تعلقه بالمفعول غاية الظهور، فجاز أن يقال ليس زيد جاهلًا وليس زيد بجاهل، كما يقال مسحته ومسحت به وغير ذلك مما يعدى بنفسه وبالباء، ولم يجز أن يقال كان زيد بخارج وصار عمرو بدارج لأن صار وكان فعل ظاهر غاية الظهور بخلاف ليس وما النافية، وهذا يؤيد قول من قال: (ما هذا بشر) وهذا ظاهر.
البحث الثاني: لو قال قائل: كان ينبغي أن لا يجوز إخلاء خبر ما عن الباء، كما لا يجوز إدخال الباء في خبر كان وخبر ليس يجوز فيه الأمران وتقرير هذا السؤال هو أن كان لما كان فعلًا ظاهرًا جعلناه بمنزلة ضرب حيث منعنا دخول الباء في خبره كما منعناه في مفعوله، وليس لما كان فعلًا من وجه نظرًا إلى قولنا لست ولسنا ولستم، ولم يكن فعلًا ظاهرًا نظرًا إلى صيغ الاستقبال والأمر جعلناه متوسطًا وجوزنا إدخال الباء في خبره وتركه، كما قلنا في مفعول شكرته وشكرت له، وما لما لم يكن فعلًا بوجه كان ينبغي أن يكون بمنزلة الفعل الذي لا يتعدى إلى المفعول إلا بالحرف وكان ينبغي أن لا يجيء خبره إلا مع الباء كما لا يجيء مفعول ذهب إلا مع الباء، ويؤيد هذا أنا فرقنا بين ما وليس وكان، وجعلنا لكل واحدة مرتبة ليست للأخرى فجوزنا تأخير كان في اللفظ حيث جوزنا أن يقول القائل زيد خارجًا كان وما جوزنا زيد خارجًا ليس، لأن كان فعل ظاهر وليس دونه في الظهور، وما جوزنا تأخير ما عن أحد شطري الكلام أيضًا بخلاف ليس، حيث لا يجوز أن يقول القائل: زيد ما بظلام، إلا أن يعيد ما يرجع إليه فيقول زيد ما هو بظلام فصار بينهما ترتيب ما يوجه، وليس يؤخر عن أحد الشطرين ولا يؤخر في الكلام بالكلية، وكان يؤخر بالكلية لما ذكرنا من الظهور والخفاء، فكذلك القول في إلحاق الباء كان ينبغي أن لا يصح إخلاء خبر ما عن الباء، وفي ليس يجوز الأمران، وفي كان لا يجوز الإدخال، وهذا هو المعتمد عليه في لغة بني تميم حيث قالوا: إن ما بعد ما إذا جعل خبرًا يجب إدخال الباء عليه فإن لم تدخل عليه يكون ذلك معربًا على الابتداء أو على وجه آخر ولا يكون خبرًا، والجواب عن السؤال هو أن نقول الأكثر إدخال الباء في خبر ما ولاسيما في القرآن قال الله تعالى: {وَمَا أَنتَ بِهَادِى العمى عَن ضلالتهم} [الروم: 53]، {وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ} [فاطر: 22]، {وَمَا هُم بخارجين} [البقرة: 167]، {وَمَا أَنَاْ بظلام} وأما الوجوب فلا لأن ما أشبه ليس في المعنى في الحقيقة وخالفها في العوارض وهو لحوق التاء والنون، وأما في المعنى فهما لنفي الحال فالشبه مقتض لجواز الإخلاء والمخالفة مقتضية لوجوب الإدخال، لكن ذلك المقتضي أقوى لأنه راجع إلى الأمر الحقيقي، وهذا راجع إلى الأمر العارضي وما بالنفس أقوى مما بالعارض، وأما التقديم والتأخير فلا يلزم منه وجوب إدخال الباء، وأما الكلام في اللام فنقول اللام لتحقيق معنى الإضافة يقال غلام زيد وغلام لزيد، وهذا في الإضافات الحقيقية بإثبات التنوين فيه، وأما في الإضافات اللفظية كقولنا: ضارب زيد وقاتل عمرو، فإن الإضافة فيه غير معنوية فإذا خرج الضارب عن كونه مضافًا بإثبات التنوين فقد كان يجب أن يعاد الأصل وينصب ما كان مضافًا إليه الفاعل بالمفعول به ولا يؤتى باللام لأنه حينئذ لم تبق الإضافة في اللفظ، ولم تكن الإضافة في المعنى، غير أن اسم الفاعل منحط الدرجة عن الفعل فصار تعلقه بالمفعول أضعف من تعلق الفعل بالمفعول، وصار من باب الأفعال الضعيفة التعلق حيث بينا جواز تعديتها إلى المفعول بحرف وغير حرف، فلذلك جاز أن يقال: ضارب زيد أو ضارب لزيد، كما جاز: مسحته ومسحت به وشكرته وشكرت له، وذلك إذا تقدم المفعول كما في قوله تعالى: {إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] للضعف، وأما المعنوية فمباحث:
الأول: الظلام مبالغة في الظالم ويلزم من إثباته إثبات أصل الظلم إذا قال القائل هو كذاب يلزم أن يكون كاذبًا كثر كذبه، ولا يلزم من نفيه نفي أصل الكذب لجواز أن يقال فلان ليس بكذاب كثير الكذب لكنه يكذب أحيانًا ففي قوله تعالى: {وَمَا أَنَاْ بظلام} لا يفهم منه نفي أصل الظلم والله ليس بظالم فما الوجه فيه؟ نقول: الجواب عنه من ثلاثة أوجه: أحدها: أن الظلام بمعنى الظالم كالتمار بمعنى التامر وحينئذ يكون اللام في قوله: {لّلْعَبِيدِ} لتحقيق النسبة لأن الفعال حينئذ بمعنى ذي ظلم، وهذا وجه جيد مستفاد من الإمام زين الدين أدام الله فوائده.
والثاني: ما ذكره الزمخشري وهو أن ذلك أمر تقديري كأنه تعالى يقول: لو ظلمت عبدي الضعيف الذي هو محل الرحمة لكان ذلك غاية الظلم، وأما أنا بذلك فيلزم من نفي كونه ظلامًا نفي كونه ظالمًا، ويحقق هذا الوجه إظهار لفظ العبيد حيث يقول: {مَا أَنَاْ بظلام لّلْعَبِيدِ} أي في ذلك اليوم الذي امتلأت جهنم مع سعتها حتى تصيح وتقول لم يبق لي طاقة بهم، ولم يبق في موضع لهم فهل من مزيد استفهام استكثار، فذلك اليوم مع أني ألقي فيها عددًا لا حصر له لا أكون بسبب كثرة التعذيب كثير الظلم وهذا مناسب، وذلك لأنه تعالى خصص النفي بالزمان حيث قال: ما أنا بظلام يوم نقول: أي وما أنا بظلام في جميع الأزمان أيضًا، وخصص بالعبيد حيث قال: {وَمَا أَنَاْ بظلام لّلْعَبِيدِ} ولم يطلق، فكذلك خصص النفي بنوع من أنواع الظلم ولم يطلق، فلم يلزم منه أن يكون ظالمًا في غير ذلك الوقت، وفي حق غير العبيد وإن خصص والفائدة في التخصيص أنه أقرب إلى التصديق من التعميم.
والثالث: هذا يدل على أن التخصيص بالذكر لا يدل على نفي ما عداه، لأنه نفى كونه ظلامًا ولم يلزم منه نفي كونه ظالمًا، ونفي كونه ظلامًا للعبيد، ولم يلزم منه نفي كونه ظلامًا لغيرهم، كما قال في حق الآدمي:
{فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ} [فاطر: 32].
البحث الثاني: قال ههنا: {وَمَا أَنَاْ بظلام لّلْعَبِيدِ} من غير إضافة، وقال: {مَا أَنتَ بِهَادِى العمى} [النمل: 81]، {وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن في القبور} [فاطر: 22] على وجه الإضافة، فما الفرق بينهما؟ نقول الكلام قد يخرج أولًا مخرج العموم، ثم يخصص لأمر ما لا لغرض التخصيص، يقول القائل: فلان يعطي ويمنع ويكون غرضه التعميم، فإن سأل سائل: يعطي من، ويمنع من؟ يقول: زيدًا وعمرًا، ويأتي بالمخصص لا لغرض التخصيص، وقد يخرج أولًا مخرج الخصوص، فيقول فلان يعطي زيدًا ماله إذا علمت هذا فقوله: {وَمَا أَنَاْ بظلام} كلام لو اقتصر عليه لكان للعموم، فأتى بلفظ العبيد لا لكون عدم الظلم مختصًا بهم، بل لكونهم أقرب إلى كونهم محل الظلم من نفسه تعالى، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فكان في نفسه هاديًا، وإنما أراد نفي ذلك الخاص فقال: {وَمَا أَنتَ بِهَادِى العمى} وما قال: ما أنت بهاد، وكذلك قوله تعالى: {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36].
البحث الثالث: العبيد يحتمل أن يكون المراد منه الكفار، كما في قوله تعالى: {ياحسرة عَلَى العباد مَا يَأْتِيهِمْ مّن رَّسُولٍ} [ياس: 30] يعني أعذبهم وما أنا بظلام لهم، ويحتمل أن يكون المراد منه المؤمنين ووجهه هو أن الله تعالى يقول: لو أبدلت القول ورحمت الكافر، لكنت في تكليف العباد ظالمًا لعبادي المؤمنين، لأني منعتهم من الشهوات لأجل هذا اليوم، فإن كان ينال من لم يأت بما أتى المؤمن ما يناله المؤمن، لكان إتيانه بما أتى به من الإيمان والعبادة غير مفيد فائدة، وهذا معنى قوله تعالى: {لاَ يَسْتَوِى أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هُمُ الفائزون} [الحشر: 20]، ومعنى قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، وقوله تعالى: {لاَّ يَسْتَوِى القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِى الضرر} [النساء: 95] ويحتمل أن يكون المراد التعميم.
{يَوْمَ نَقول لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقول هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)}.